العارف بالله والمريد
العارف بالله والمريد
قال الشيخ رضى الله عنه وارضاه :
يجب على المريدين التزام الأدب التام مع العارفين، وينبغي للجالس عند العارفين بالله أن يكون معه ورقة وقلم، لأنهم إذا ردوا من حضرة الشهود أذن لهم بالكلام، لأنهم نواب الحضرة المحمدية، وخبراء طريق الله، ينطقون بما في القلوب، فإذا أرادك الحق أوصلك إليهم.
فيجب الدخول عليهم بالأدب، ومجالستهم بالأدب، ومخاطبتهم بالأدب، وإكبار شأنهم
((وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) (الحج 32).
ويجب عليه أن يسلم لهم حالهم وقولهم، ولا يعترض على ما لا يعرفه، حتى يتبين له في المجلس أو في مجلس آخر دون تحكم، فإن فعل العبد ذلك يرجى له الخير في الدنيا والآخرة.
وقد قال لي احد الجلساء جلوسك معنا تواضع كبير فقلت له حالي كذلك، ولو جائنى كافر لعانقته، فالمؤمن الكامل لا يغلو في كلامه، وكل ما ينطق به موعظة أو عبرة أو توضيح حكم أو تفسير معنى أو دلالة على خير من فعل أو قول أو اعتقاد، وهو لا يتحرى في ذلك إلا ابتغاء مرضاة الله تعالى وما ينفعه وينفع الناس في الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى ((وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) (المؤمنون 3) و ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) (الفرقان 72).
ومن أطاع غنياً في غير مرضاة الله كان خائناً، فإذا بعث بعد الموت من قبره خرجت معه خيانته تنادى (أنا خيانة فلان)
لذلك كانت الوحدة خيراً من جليس السوء المتعلق بالدنيا.
والذين يتثاءبون في المجالس عندهم مرض في قلوبهم ونقص في سيرهم.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتثاءب ولا يحتلم، وفى الأشراف من أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث خصال متميزة هي العفة والسخاء والشجاعة، فهم يكرمون أعدائهم ولا يبخلون بطاعة الله ولا يبخلون بمال.
والأشراف لا يصح الدخول بينهم إذا ظهر بينهم وبين بعض اى خلاف، فإنه سم قاتل، وقد قالوا إن الشريف يسلب الولاية من الولي إذا اخطأ في حقه، والفقير يسلب الشريف الحال اى الترقي في السير، وما رأيت شريفاً إلا هابني، وإني كنت أقبل حيطان الأشراف بالزيتية بالليل وأنصحهم بالنهار، وقد قال ابن العربي قولاً أدين الله عليه وهو أن ذنوب أهل البيت صورية لا حقيقية لقوله تعالى ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) (الأحزاب 33)
والمريد عند الصوفية هو العبد المتوجه إلى ربه، المخلص في طلبه، ويجب أن يكون ذكياً أديباً، رقيق الجوانب، ألفاً مألوفاً، يحب الصالحين، ويتعلق بالقدوة الحسنة التي يرزقه الله بها، متفانياً في إتباعه لها.
والمريد إما مريد إدراك أو مريد تربية، وان الوصول إلى الله شديد، ولابد فيه من العالم الخبير، العالم الصادق العارف، وقد قال تعالى ((الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)) (الفرقان 59).
فكم لها من سامع منتفع *** يعلم ما يأتي لها وما يذر
وغافل عن الرموز جاهل يقول *** من يقول ذا فقد كفر
((فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)) أي فاسأل بذاته اى هو خبير ـ وقد يقال فاسأل به خبيراً به اى عارفاً به، وفى الحقيقة فاسأل الرحمن يدلك على الخبير، وأيضا اسأل الخبير العالم بالرحمن يدلك على الرحمن جل شانه، اى تنق الخبير العارف بالله تعالى فهو يدلك على الإحسان في أداء المفروضات وفى المعاملات والكمالات الإنسانية، والخبير لا يشترط أن يكون من فئة بعينها بل العارف بالله هو الذي يقطع يقين العبد انه من حضرة الله وأوليائه، وهو الذي يحب العبد شاكلته المحمدية،
وتظهر عليه مظاهر الميراث المحمدي، وعلامته أن يكون عاملاً بالكتاب والسنة، ومتمسكاً بمكارم الأخلاق، لا يؤخذ عنه خروج عن أحكام الدين أو التفريط في الفرائض أو سنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وان يكون رحمة مهداة لأهله وجيرانه ومحيطه الاجتماعي والعالم كله، باراً بالضعفاء والفقراء نقياً من كل النقائص، لا يدخله الغرور بنفسه ـ ولا الاعتزاز بطاعته، ولا يترفع عن الفقراء ـ ولا يهاب الأغنياء ولا الأقوياء ـ ولا يخشى في الله لومة لائم، رائحته ذكية وأحواله سنية، لا يمل جليسه مجلسه ولا يود مفارقته، قال الشريف الرضي في حبيبه:
وما تمكث جسمي عن لقائكم *** إلا وقلبي إليكم شيق عجل
وكيف يصبر مشتاقاً يحركه *** إليكم الحافزان الشوق والأمل
فان نهضت فمالي غيركم وطر *** وان قعدت فمالي غيركم أمل
وكم عرض لي الأقوام قبلكمو *** يستأذنون على قلبي فما وصلوا
ذلك لان الكمال المحمدي في شاكلته، وكل من كان على الشاكلة الشريفة كان جماله طاغيا يحتل القلوب عنوة،، لأنه يأخذ بألبابها فتسلم له قيادتها، وفى هذا المعنى يقول الله تعالى جل شانه ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)) (الزمر 29).
وقال تعالى ((وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران 102) أي إن تبيعوا أنفسكم وأموالكم لله لقوله تعالى ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)) (التوبة 111) وقال تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) (الفتح 10).
هذا هو نفس الشأن مع العارفين بالله ورقة القدم المحمدي في الدعوة إلى الله، وان الطريق إلى الله يصعب الوصول إليه جداً، ولا يتأتى بالهز ولا بالهمهمة.
وقد قال ابن الفارض وهو فقيه العاشقين:
خاطب خطبه ودع الدعوى فما *** بالرقى ترقى إلى وصل رقى
رح معاني واغتنم نصحي وإن *** شئت أن تهوى فللبلوى نهى
فالمراد من التوحيد هو أن نتعلم الأدب في الوقوف بأبواب العلماء بالله، والمراد من الصلاة والصوم هو أن نتعلم الوقوف بين يدي الله والقيام بحقه علينا، وكم وقف قوم في عبادتهم، وافتتن آخرون بالكرامات التي يظهرها الله على يد أوليائه فضلوا عن ربهم، لذلك فاني في حاجة ماسة إلى خبير يرشدني في طريق الله إلى أن نجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة ومناما، حالاً ومآلا.
ولا يصلح المرشد للإرشاد إذا كان أقل من هذا المرتبة، وإذا لم يوجد الكفء يباح التيمم، وهو إتباع أفضل الموجودين من الأمة في هذا الباب، حتى يرزق الله المريدين الكمل من عباده، وهم رزق يسوقه الله لمستحقيه قال تعالى ((وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) (طه 131).
فيا حسرتى على العلماء إلا قليل، فالعالم إذا لم يكن مظهراً من مظاهر النبوة لا يصح الأخذ عنه في السير إلى الله، لأنه إن لم يكن كاملاً فانه يقع في مخالفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فما بالكم بالمخالفات الأخرى.
وأنا أتكلم على من يريد الحق، وما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقاً يقربنا إلى الله إلا قربها وقررها وعمل بها، وكلها تابعة في سنته - صلى الله عليه وسلم -، والبعد عن الله لا يكون إلا بعدم متابعة - صلى الله عليه وسلم -، والوقوع في المعاصي والذنوب.
والله أنا متحير، خائف وجل من الله، ولا اعرف كيف العمل يوم القيامة، حينما أخرج من القبر حافياً عارياً، ليس معي أهل ولا عشيرة ولا مال، وكيف اجتاز الصراط وأقبل بين يدي الله تعالى، وان كنت اعلم أن الله جل شانه رحمن رحيم فسأظل بين الخوف والرجاء، والله ما فرحت بشيء غير الله منذ أربعين سنة، ولولا الشريعة ما دخلت بيتي، ولكن أدباً مع صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - والله يريد منا في هذه الدار أشياء أمرنا بها وأشياء أمرنا بتجنبها وقد تكفلت السنة والشريعة ببيان ذلك، والله يقول في كتابه لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)) (محمد 38).
وان كان كرمه لأحد له فمن قوله تعالى ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) (الأنفال 38) ومن كرمه انه قد غفر للذي قتل سيدنا حمزة - رضي الله عنه - لما اسلم، وذلك لأنه يحب الذي يرجع إليه مهما كانت ذنوبه.
لكن يجب الرجوع إليه من قريب، اى على الفور، والباب مفتوح والفضل مبذول، وهو لا يحب أن يلقى عبده يوم القيامة بغير توبة، والله يرزق التوبة للمؤمنين وقال تعالى ((ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)) (التوبة 118).
إن كرم الله أوسع مما يعقله عقل، فانه يكرم يوم القيامة عباده كرماً لم يخطر على قلب بشر، كما انه يشدد شدة لم تخطر على قلب بشر، نسال الله اللطيف الرحمة وفتح أبواب كرمه على الأمة الإسلامية وعلى العالم، وهذا عصر كثرت فيه المفاسد والبدع ومخالفات الشريعة والسنة النبوية، نعوذ بالله تعالى من كل ما يخالف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فبارتكاب الذنوب وعدم المتابعة لا يمكن السير في الطريق، ونحن في زمن تعطلت فيه الأرواح جداً، المأكول مشوب والملبس مشوب والجليس والصاحب مشوب، نريد طريقاً يقوم على التقوى الداخلية وتصلح به الأحوال الظاهرية، اللهم اجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا صالحة، فطالب الحق لا يصل بالتمني إلى الله، ولا بالوقوف مع غيره، فالكل في حاجة ماسة إلى سائق يسوقهم إلى الله، يكون عالماً عارفاً بالكتاب والسنة، وعالماً بالسير والنظام خبيراً به، لا سائقاً جاهلاً ولا مبتدعاً ولا درويشاً، فنحن في عالم كثر فيه الإلحاد والتبشير، ونسأل الله أن يؤيدنا بالسنة وصفاء الروح، ولو أن عالماً وقف في كتابته مع غير ربه لسقط من عين الله، فلابد له من المناعة والمراقبة والحضور، وفى الحديث ((من أحدث إخاء في الله كان رفيقي في الجنة)) وكم من أخ يدخل الجنة بسبب أخيه، وتصفو روحه بسبب صحبة الصالحين الذين لا يغفلون عن الله، ويدلون على الله بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، ويرون الأنس به وبطاعته، وما كلفنا الله بالعمل إلا لنصل إلى رضاه، ففي الحقيقة إن التكليف هدية من الله لنا، فلو تركنا لكفر معظم الناس، ولهذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب حتى لا ننسى العهود ولا ننسى الجمال الالهى الذي كشف لنا عنه ونحن في عالم الأرواح، وما طلب منا القنوت والركوع والسجود والتقوى إلا ليكرمنا بها يوم القيامة، فإذا وصل العبد إلى حد التقوى صار متلذذاً بربه لا بجاهه ونفسه، إذ ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) فإذا تم الإيمان صار هواه تبعاً لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا رأيت عبداً يغفل ويتعدى الحدود فهذا سيء الخلق يحتاج إلى صاحب صالح يدله على الله، ويخرجه من غفلته، والدلالة على الله والإرشاد واجب على أهل الحضرة المحمدية، والله تعالى يقول ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) (النحل 44) فالعالم يعرفنا بالوراثة النبوية ما نزل إلينا فضلاً من الله ونعمة ورحمة للفوز في الدنيا والآخرة.