الفناء
الفناء
لا دخول على الله مطلقاً إلا من باب الفناء، فان العبد لا يصل إلى ربه طالما له وجود والمقصود بالوجود هنا وجود حظوظ أو مشتهيات لغير الله في قلبه فقد كتب الله على نفسه ألا يدخل قلباً دخله سواه، ولا يتجلى لعين رأت غيره في مرآة، وإذا تجلى الله على العبد محق صفاته وأسمائه واثبت في الروح صفته تعالى وأسمائه جل شانه.
فقال سأل سيدي أبو الحسن الشاذلي ربه هذه المرتبة له ولأتباعه حيث قال ((اللهم أدرج اسمائى تحت صفاتك درج السلامة والكرامة)) وهى نفس المرتبة التي يكون الله فيها هو سمع العبد وبصره ويده ورجله كما ورد في الحديث القدسي، والفناء الحقيقي هو استهلاك شهوات النفوس وحظوظها، وهذا في الكامل دائماً.
أما المجذوب هو من أخذته جذبة إلهية فأسكرته إلى الأبد، وجعلت زمانه واحداً، لا يدرى الحر من البرد ولا الصيف من الشتاء ولا الحال من المقال.
والكامل الحقيقي أنفاسه كلها مع الله، وهو ربما يرقى في اللحظة الواحدة أكثر من ألف مجذوب، وأهل الجذب ليس لهم جنة معينة لأنهم ليس لهم تكليف في جنة الأعمال.
فالكامل أرقى وأرقى، يأكل ويشرب، وله دوام المشاهدة، والكمال عندهم أن يكون القلب مجذوباً إلى حضرة الله، باقياً فيه، مؤدياً لأوامره، تاركاً لنواهيه، فإذا فني احدهم أو صعق اعتذر إلى الله، وأول من اعتذر إلى ربه بعد صعقه سيدنا موسى، وكان يود أن يكون حاضراً، لأنه يشتاق إلى مكالمة ربه ((فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ)) (الأعراف 143).
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء لم يصعق لاستواء ظاهره وباطنه، وبصره وبصيرته ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)) (النجم 17) وهكذا دأب ورثته الكمل.
فإنهم مع ربهم، قائمون على باب حضرته، عارفون بجلاله وجماله، وأحكامه وأيامه، وقضائه وقدره، اللهم اجعلنا منهم يا كريم.
وهو يدخلون من باب السر الذي دخل منه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما المجذوب فهو قد حام حول الحمى فدندن، فمن أراد أن يكون بالله، فليكن مع ربه في أوامره وأحكامه ويفرغ باطنه مما سواه، ويعصم جوارحه من المخالفات، ويأخذ كل شيء بإذن إلهي على جهة التعبد لا جهة الشهوة، فيأكل لله ويشرب لله ويتزوج لله ويسافر لله فإذا اطلع عليه ادخله حضرته.
اللهم أدخلنا في حضرتك يارب العالمين.
والواجب عند القوم عدم مرور الأكوان على القلب، حتى العرش أو الفرش، فان القلب محل لنظر الله وتجلياته، ولا يعرف هذا إلا عبد فارق المخالفات، واتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله وعمله وحاله.
واشد معصية عندهم غفلت القلب عن الله ولو لحظة، وان المسافر لا يصح له الوقوف مع غير الله تعالى حتى يصل إلى ربه، فان الحياة كلها سفر، فمن وقف مع شيء تأخر في السفر والله تعالى يقول ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) (الذاريات 50).
والتحقيق عندهم أن يرى نفسه في هذه الدار كضيف استظل تحت شجرة وتركها، ويرى ذلك في بيته وثيابه، وصحته وهرمه، فإذا صح عند ذلك ملأ الله قلبه نوراً، والله سبحانه وتعالى أباح لنا الأسباب في هذه الدار رحمة منه على ضعفائنا، وخاطب الجميع ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) (الملك 15) ولم يقل كلوا من عملكم، فليس للعامل شيء في تحضير زرع، فلو اجتمع العالم كله على أن يجعلوا في السنبلة حبة ما استطاعوا.
وهناك قوم قطعوا الأسباب فتكفل بهم ربهم، ولم يتركهم لغيره، وأنا من هؤلاء القوم، اللهم أدم علينا ما يرضيك عنك من غير بلاء ولا محنة، تلك هي التربية و الأدب والسير إلى الله تعالى
يا رب ... يا رب ... يا رب.
أقسام الفناء:
1 - فناء حالي 2 - فناء تذكاري
3 - فناء قهري 4 - فناء سلبي
5 - فناء وجدي 6 - فناء تذكر عظمة الحق
7 - فناء تذكر جمال الحق 8 - الفناء عن الفناء
وأحسنها الفناء عن الفناء بحيث لا تقف (لا تغيب) عن السير، ومن وقف في فنائه فهو نقص، ويشترط عليه القوم أن يفنى عن الفناء، فالوقوف مع الفناء نفسه ليس طريقاً سليماً، وإذا شاء الله بقى العبد بربه وسار في جميع المواطن، اى وصل ورجع لهداية الخلق يدعو بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى أن يكون وارثاً للقدم المحمدي في الفعل والحال والقول، لان الحال المحمدي يكشف لك عن حال المريد الذي يريد الحق.
ومن وقف مع مرتبة من المراتب حجب عن المرتبة التي تليها، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - (احكم السفينة فإن البحر عميق، وأكثر الزاد فإن السفر طويل، وخفف الظهر فإن العقبة كئود، واخلص العمل فإن الناقد بصير).
وارى في مرتبة الفناء أموراً عجيبة منها:
أن العبد إذا وقف مع صلاته وعبادته، واغتر بأعماله الصالحة حجبه ذلك عن ربه، لان العبد في هذه الحالة يرى نفسه، والشأن أن يفنى عنها، ويرى توفيق الله له بتيسيره لها، فيشكر فضل الله عليه ويذكره على الدوام، وإذا صدق في ذلك وكان ذكره لله بكل جوارحه وكل ذرة من جسمه يترقى لمرتبة يكون فيها هو عين الذكر المتعينة تعيناً ذاتياً.
فإذا ثبت العبد في ذلك ترقت روحه إلى مرتبة حق الذكر فتكون الروح هنا حقاً، وفيها يشهد العبد أن الله هو الذي يذكر نفسه على لسان عبده كما قال الله تعالى ((وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)) (العنكبوت 45) وقال تعالى ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات 96) وكما قال تعالى ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) (الأنفال 17) وكما قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
والمرتبة الأولى هي ((مرتبة العلم بالشريعة)) والمفروضات والسنن وأدائها كما كان يؤديها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وهى مرتبة يرى العبد نفسه فيها، ويحمد له حسن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - بأولياء الله والصالحين في وقته، وهذه هي مرتبة العلم بالشريعة والأخلاق الآداب المطلوبة.
وتليها ((مرتبة العين)) وهى أن يكون العبد هو عين الذكر وعين العبادة، فإذا صلى صلاة كانت روحه فيها هي ذات الصلاة وعينها، وذلك لغيبته الكلية عن كل شيء غير صلاته، واستغراقه فيها بالكلية.
فإذا ثبت ذلك رقى العبد إلى المرتبة التالية، وفيها يرى العبد الذي صلى وقام بالأعمال هو الله تعالى وهى مرتبة الحق.
ويعرف الصوفية هذه المراتب الثلاث:
- علم اليقين ... - وعين اليقين ... - وحق اليقين
قال سيدي محمد على وفا - رضي الله عنه -:
العلماء بعلم اليقين، والأولياء بعين اليقين، والأنبياء بحق اليقين.
وقال ابن الفارض - رضي الله عنه -:
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلتي
وإذا سار السائرون ووصلوا إلى هذه المرتبة، بعد تحقق مرتبة الفناء لهم ومنحهم الدية، يكونون قد اجتازوا مراحل الطريق، وعرفوا صعبها وسهلها، وخطرها ومأمونها، ويكونون من ورثة النبي عليه الصلاة والسلام بوراثته لآخر الورثة المحمدية، وهو العارف بالله في الوقت الذي عاش فيه العبد وبذلكوحده يكون العبد على الشاكلة المحمدية، ويكون على قدمه - صلى الله عليه وسلم - في المقال والفعل والحال، لأنه اقتدى بقدوة حسنة سابقة، واقتدت هي الأخرى بالقدوة السابقة عليها، وهكذا قدوة عن قدوة، حتى القدوة المحمدية نفسها في سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأهل هذه القدوة هم حضرة الله تعالى والداعون إليه في كل عصر.
قال سيدي أبو العباس أحمد بن يوسف المشهور بابن البناء في كتابه ((المباحث الأصلية في جملة الطريقة الصوفية)) عن الشيخ العارف بالله والقدوة الحسنة وتابعيه:
إنما القوم مسافرون *** لحضرة الحق وظاعنون
فافتقروا فيه إلى دليل *** ذي بصر بالسير والمقيل
قد سلك الطريق ثم عاد ** ليخبر القوم بما استفاد
وجاب منها الوهد والاكما *** وراض منها الرمل والرغاما
وجال فيها رائحاً وغادياً *** وصار كل مذوياً ووادياً
وعلم المخوف والمأمونا *** وعرف الأنهار والعيونا
قد قطع البيداء والمفاوز *** وارتاد كل حابس وحاجز
وحل في منازل المناهل *** وكل مشرب كان فيه ناهل
فعندما قام بهذا الخطب *** قالوا جميعاً أنت شيخ الركب.
************